جدول المحتويات
جاء الإسلام بأحكام وتشريعات صالحة لكل زمان ومكان، وما شرع الله من حكم إلا وفيه حكمة وتحقيق مصلحة ودفع مفسدة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها. وقد تخفى مقاصد وحكم بعض التشريعات عن قوم وتتحقق عن آخرين، والخلاف في فهم معانيها لا يعني أن لها مقاصد موهومة، وإنما قد يتعلق الناس بالمصالح والمقاصد الموهومة من تشريع الأحكام ويتركون المقاصد الأصلية الواضحة إما لجهل أو قلة علم، او لعدم تحقق أدوات النظر الاجتهادي لدرك الأحكام ومقاصدها زيادة على ما سبق، فإن أحكام الله تعالى، وفي عصر هيمنة الرؤية العلمانية العوراء للدين، تجعل من كثير من أحكام الشرع واقعة في دائرة الشبهة لما لسيطرة النظرة التغريبية على الناس من أثر في توجيه حياتهم وطرق عيشهم ولعل من القضايا بالغة الأهمية التي شرعها الله تعالى نجد ” تعدد الزوجات” الثابت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسيرة السلف الصالح.
هذا التشريع الرباني أثير حوله كثير من اللغط من قبل العلمانيين الذين يتبعون تفاهات الغرب والجاهلية المعاصرة وينكرون شرائع الله بدون علم، في حين أنهم لا يجرؤون على التصريح برفضهم للانجرافات عن الفطرة وانتهاكات حقوق الانسان والمجتمع من مثل زواج المثليين والترويج للرذيلة وقتل النفس بغير حق والصد عن الحياة الكريمة والجري وراء المادة واللذة ولهذا يأتي هذا الكلام ليحاول أن يميط اللثام عن موضوع بالغ الحساسية في حياتنا المعاصرة ألا وهو ” تعدد الزوجات” من أجل المساهمة في استعادة أصالتنا الفكرية وتميزنا الديني والحضاري.
سورة النساء وشمولها أحكام التعدد واليتيم
تعتبر سورة النساء من أكثر السور التشريعية في القرآن الكريم، ولقد تصدرت أحكام اليتيم أوائل هذه السورة الكريمة، فكان المطلع عن وحدة الإنسان، وأنه لا فضل لأحد على غيره إلا بالتقوى.
ثم جاءت الآية الثانية مباشرة تأمر بإيتاء مال اليتيم، وتتوعد لآكله بالعذاب الأليم؛ فالآية الثالثة التي تضم حكما غاية في الأهمية؛ وهو تعدد الزوجات ضمن رعاية مال اليتيم قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا}ولقد جاء في سبب نزول الآية ما رواه البخاري: ” عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة – رضي الله عنها-أنَّ رَجُلًا كَانَتْ له يَتِيمَةٌ فَنَكَحَهَا، وكانَ لَهَا عَذْقٌ،وكانَ يُمْسِكُهَا عليه، ولَمْ يَكُنْ لَهَا مِن نَفْسِهِ شيءٌ فَنَزَلَتْ فِيهِ: {وَإنْ خِفْتُمْ أنْ لا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى} أحْسِبُهُ قالَ: كَانَتْ شَرِيكَتَهُ في ذلكَ العَذْقِ وفي مَالِهِ”.
والخوف في الآية الكريمة هو الشك والظن، ففي اللغة معناه: ” الانتقاص من الشيء” وهو ” يتضمن معنى الظن في حقيقته ومجازه، وهو غم يلحق لتوقع المكروه، وكذا الهم”.
والقسط: ” أصل صحيح يدل على معنيين متضادين، والبناء واحد، فالقسط: العدل. ويقال منه: أَقْسَطَ، يُقْسِطُ. قال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} إذن فالولي إذا راوده أدنى شك، أو ظنٌّ يتوقع من خلاله أن يسيء ليتيمه، أو يتيمته في عدم العدل فيهما، أو أكل مالهما لإرضاء رغباته النفسية والشهوانية، بأن يتزوجها لمالها وجمالها، للاستيلاء على مالها، أو أن تكثر نساؤه فيميل إلى مال يتيمه للإنفاق على زوجاته في حال إعساره. ولاتقاء ما قد يقع فيه الولي من جور على يتيمه أو يتيمته، أمره تعالى أن يكتفي بالواحدة؛ فهي مدعاة للعدل.
المفسرون ومفهوم العدل في يتامى النساء:
يقول الطبري في بيان معنى الآية الكريمة: ” وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال: تأويلها: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى }فكذلك فخافوا في النساء فلا تنكحوا منهن إلا ما لا تخافون أن تجوروا فيه منهن من واحدة إلى الأربع، فإن خفتم الجور في الواحدة أيضا فلا تنكحوها، ولكن عليكم بما ملكت أيمانكم فإنه أحرى أن لا تجوروا عليهن”.
فالعدل مطلوب قبل الزواج وبعده؛ وذلك بأن يغلب على ظن الولي العدل في يتيمته حال نكاحها، أو في غيرها من النساء إلى الأربع، حتى وإن غلب عليه عدم العدل في الواحدة ففي ملك اليمين.
ويبرر الطبري ترجيحه للقول المذكور فيقول: ” وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية؛ لأن الله تعالى افتتح الآية التي قبلها بالنهي عن أكل أموال اليتامى بغير حقها، وخلطها بغيرها من الأموال، فقال تعالى: { وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا} ثم أعلمهم أنهم إن اتقوا الله في ذلك فتحرجوا فيه، فالواجب عليهم من اتقاء الله والتحرج في أمر النساء، مثل الذي عليهم من التحرج في أمر اليتامى، وأعلمهم كيف التخلص لهم من الجور فيهن كما عرفهم المخلص من الجور في أموال اليتامى، فقال انكحوا إن أمنتم الجور في النساء على أنفسكم، ما أبحت لكم منهن وحللته، مثنى وثلاث ورباع، فإن خفتم أيضا الجور على أنفسكم في أمر الواحدة؛ بأن لا تقدروا على إنصافها، فلا تنكحوها ولكن تسروا من المماليك، فإنكم أحرى ألا تجوروا عليهن؛ لأنهن أملاككم وأموالكم، ولا يلزمكم لهن من الحقوق كالذي يلزمكم للحرائر، فيكون ذلك أقرب لكم إلى السلامة من الإثم والجور”.
ذكر الطبري أن هذه الآية نزلت مناسبة للأولى في ذكر سبب الخوف من نكاح اليتيمات، وهو أكل أموالهن؛ وذلك أن الله تعالى ذكر النهي عن أكل أموال اليتامى قبل هذه الآية، فتبعتها مناسبة لها، فكان النهي عن أكل مالهن حال التزوج بهن، أو أكله حال التزوج بغيرهن؛ يعني ذلك أن الولي إذا أمن عدم الجور في أموال اليتامى، أمن الجور في العدل بين النساء، وإن لم يستطع الالتزام بعدم التعدي على أموالهن، فإنه يخاف الجور في معاشرة نسائه.
ويذكر الجصاص رواية ” عن عكرمة قال كان الرجل من قريش تكون عنده النسوة، ويكون عنده الأيتام فيذهب ماله فيميل على مال الأيتام فنزلت: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى}إن سبب نزول الآية حسب قول أمنا عائشة- رضي الله عنها-: أنها نزلت في اليتيمة تكون في حجر وليها، فإذا كانت ذات مال وجمال نكحها، وأكل نصيبها من المال، وهضم حقها في الصداق، وإن كانت غير ذلك عدل عنها، أو عضلها عن نكاح غيره لكي لا يشركه في مال اليتيمة أحد.
فالحكم إذن نزل لما لاقته اليتيمة في ظلام الأعراف الجاهلية، وتسلط أوليائهن من التعدي أو العضل.
لما جاء الإسلام سطع نوره على الناس، فأخرج اليتيمة بأحكام القرآن المنصفة لها من ظلام الأعراف الجاهلية، إلى نور الأحكام الإسلامية العادلة؛ فكان حفظ مالها من تعدي وليها عليه، أول ما ورد من أحكام اليتامى في سورة النساء، وأبعد الولي إن خاف الجور فيها من دائرة التعامل معها، إلى التعدد، فقال تعالى: { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً } يقول البقاعي في بيان معنى الآية: “{وَإِنْ خِفْتُمْ} فعبر بأداة الشك على الورع { أَلَّا تُقْسِطُو}أي لا تعدلوا {في الْيَتَامَى }ووثقتم من أنفسكم العدل في غيرهن {فَانكِحُوا} ولما أفاد انكحوا الإذن المتضمن للحل، حمل الطيب على اللذيذ المنفك عن النهي السابق ليكون الكلام عاما مخصوصا بما يأتي من آية المحرمات من النساء”.
فالخوف في الآية كما فسره البقاعي له معنيان:
الأول: الشك في عدم القسط في اليتيمة.
والمعنى الثاني: العلم بالعدل في غيرها فجاء الأمر فَانكِحُوا؛ يعني هذا أن الولي إذا غلب على ظنه أنه إذا تزوج باليتيمة سوف ينتقص من حقها في المال أو في الصداق، فنكاح غيرها بديل عن ذلك بشرط أن يغلب على ظنه أنه سوف يعدل في زوجاته إذا عددهن، وإذا علم أيضا أنه لن يعدل بين أكثر من واحدة، فالواحدة أحسن.
ولقد فسر ابن عاشور حرف ” مَا” في الآية الكريمة فقال ” ما صدق ” مَا طَابَ ” النساء فكان الشأن أن يُؤْتَى بـ( ما) الغالبة في غير العقلاء؛ لأنها نُحِيَ بها منحى الصفة وهو الطيب بلا تعيين ذات، ولو قال ( من) لتبادر إلى إرادة نسوة طيبات معروفات بينهم، وكذلك حال( ما) في الاستفهام ’فإذا قلت: ما تزوجت؟ فأنت تريد ما صفتها، أبكرا أم ثيبا مثلا. وإذا قلت: من تزوجت؟فأنت تريد تعيين اسمها ونسبها “.
فالطيب المذكور في الآية الكريمة المتعلق بالنساء عدل عن ( من) ب( ما) لأن الهدف من النكاح هو تكوين أسرة صالحة، وتحصين الزوجين. وليس الاختيار على أساس النسب، والحسب، والجمال.
يروي البخاري ” عن ابن شهاب قال: أخبرني عروة بن الزبير أنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عن قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا} [النساء: 3] إلى {وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، فَقالَتْ: يا ابْنَ أُخْتي هي اليَتِيمَةُ تَكُونُ في حَجْرِ ولِيِّهَا تُشَارِكُهُ في مَالِهِ، فيُعْجِبُهُ مَالُهَا وجَمَالُهَا، فيُرِيدُ ولِيُّهَا أنْ يَتَزَوَّجَهَا، بغيرِ أنْ يُقْسِطَ في صَدَاقِهَا، فيُعْطِيهَا مِثْلَما يُعْطِيهَا غَيْرُهُ، فَنُهُوا أنْ يُنْكِحُوهُنَّ إلَّا أنْ يُقْسِطُوا لهنَّ، ويَبْلُغُوا بهِنَّ أعْلَى سُنَّتِهِنَّ مِنَ الصَّدَاقِ، وأُمِرُوا أنْ يَنْكِحُوا ما طَابَ لهمْ مِنَ النِّسَاءِ سِوَاهُنَّ قالَ عُرْوَةُ: قالَتْ عَائِشَةُ رضي الله عنها : ثُمَّ إنَّ النَّاسَ اسْتَفْتَوْا رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَعْدَ هذِه الآيَةِ، فأنْزَلَ اللَّهُ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ في النِّسَاءِ} [النساء: 127] إلى قَوْلِهِ {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] والذي ذَكَرَ اللَّهُ أنَّه يُتْلَى علَيْكُم في الكِتَابِ الآيَةُ الأُولَى، الَّتي قالَ فِيهَا: {وَإنْ خِفْتُمْ ألَّا تُقْسِطُوا في اليَتَامَى، فَانْكِحُوا ما طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3]، قالَتْ عَائِشَةُ: وقَوْلُ اللَّهِ في الآيَةِ الأُخْرَى: {وَتَرْغَبُونَ أنْ تَنْكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] يَعْنِي هي رَغْبَةُ أحَدِكُمْ لِيَتِيمَتِهِ الَّتي تَكُونُ في حَجْرِهِ، حِينَ تَكُونُ قَلِيلَةَ المَالِ والجَمَالِ،فَنُهُوا أنْ يَنْكِحُوا ما رَغِبُوافي مَالِهَا وجَمَالِهَا مِن يَتَامَى النِّسَاءِ إلَّا بالقِسْطِ، مِن أجْلِ رَغْبَتِهِمْ عنْهنَّ”
وقد كانت لابن عاشور لفتة جميلة في بيان معنى الآية الكريمة فقال أنها ” جمعت إلى حكم حفظ حقوق اليتامى في أموالهم الموروثة، حفظ حقوقهم في الأموال التي يستحقها البنات اليتامى من مهور أمثالهن، وموعظة الرجال بأنهم لما لم يجعلوا أواصر القرابة شافعة للنساء اللاتي لا مرغب فيهن لهم، فيرغبون عن نكاحهن، فكذلك لا يجعلون القرابة سببا للإجحاف لهن في مهورهن، وقولها: ” ثم إن الناس استفتوا رسول الله” ؛ معناه استفتوه طلبا لإيضاح هذه الآية، أو استفتوه في حكم نكاح اليتامى، ولم يهتدوا إلى أخذه من هذه الآية فنزل قوله{:وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} الآية، وأن الإشارة بقوله: { وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ}أي ما يتلى من هذه الآية الأولى؛ أي كان هذا الاستفتاء في زمن نزول هذه السورة، وكلامه هذا أحسن تفسير لهذه الاية.
فعند نزول الآية الأولى التي ذكرها الله فيها، أنه إذا خيف الجور في اليتامى رخص للولي الزواج بغيرها من النساء إن أَمنَ العدل بينهن، لم يفهم الصحابة معناها، حتى أنزل الله تعالى الآية الثانية تبيانا للأولى وتفسيرا لها ، فقال عز وجل: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ}فجاءت هذه الآية الكريمة تبين للصحابة – وغيرهم- أن الحكم الذي ذكر في الآية الأولى ( آية التعدد) فسر بهذه الآية؛ وذلك أن السبب في عدم نكاح اليتامى هو عدم العدل في صداقهن، وأكل حقهن من الميراث والصداق إذا نكحها غير وليها.
يقول العيني في شرحه لتفسير عائشة- رضي الله عنها- قوله تعالى: (وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ} قالت عائشة- رضي الله عنها- والتي ذكر الله أنه يتلى عليكم في الكتاب الآية الأولى التي هي { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا} الآية قوله وقول الله تعالى في آية أخرى{ وَتَرْغَبُونَ. .} حين تكون أي اليتيمة قليلة المال، وحاصل المعنى أن اليتيمة إذا كانت فقيرة ذميمة يعرضون عن نكاحها، قالت عائشة- رضي الله عنها- فنهوا أي: نهوا عن نكاح المرغوب فيها لمالها وجمالها، لأجل زهدهم فيها إذا كانت قليلة المال والجمال؛ فينبغي أن يكون نكاح الغنية الجميلة، ونكاح الفقيرة الذميمة على السواء في العدل، وكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه، فإذا فعل ذلك لم يقدر أحد أن يتزوجها أبدا، فإذا كانت جميلة وهواها تزوجها وأكل مالها، وإذا كانت ذميمة منعها الرجال حتى تموت، فإذا ماتت ورثها، فحرم الله ذلك ونهى عنه”.
فإذا كانت رغبة الولي في نكاح يتيمته إن كانت غنية وجميلة، وإن كانت غير ذلك أعرض عنها زهدا فيها- ولا يكون ذلك إلا لمن اشتهى جمع زينتي الدنيا، المال والنساء ’فإذا كانت هذه نية كل ولي يلي يتيمة هذه حالها، فالْأَوْلَى أن يكون العدل فيها إذا كانت قليلة المال والجمال، كما يعدل في الجميلة الغنية. فالعدل مطالب به في كل الأحوال والصفات، وفي كل المراتب.
وعليه يظهر أن التعدد رخصة مشروطة بشروط أهمها:
- 1- القدرة على الإنفاق على الزوجات :والدليل على هذا الشرط قوله تعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ ٱلَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّىٰ يُغْنِيَهُمُ ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِۦ} فقد أمر الله في هذه الآية الكريمة من يقدر على النكاح ولا يجده بأي وجه تعذر أن يستعفف ، ومن وجوه تعذر النكاح : من لا يجد ما ينكح به من مهر ، ولا قدرة له على الإنفاق على زوجته
- 2-العدل:والعدول عن نكاح اليتيمات خوفا من عدم العدل فيهن، إلى نكاح غيرها- كما فسرها العلماء- رخصة من الله تعالى لحماية اليتيمة من جور الولي، وحفاظه من نفسه، وحددت الرخصة بأربع. قال تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}فالرخصة تلبي واقع الحياة، وتحمي المجتمع من الجنوح، تحت ضغط الضرورات الفطرية، والواقعية المتنوعة- إلى الانحلال أو الملال- والقيد يحمي الحياة الزوجية من الفوضى والاختلال، ويحمي الزوجة من الجور والظلم، ويحمي كرامة المرأة أن تتعرض للمهانة بدون ضرورة ملجئة، واحتياط كامل، ويضمن العدل الذي تحتمل معه الضرورة ومقتضياتها المريرة “. فالتعدد شُرِّعَ للحفاظ على الحياة الزوجية، والاجتماعية؛ وذلك بحفظ الرجل من أن يرتكب فاحشة الزنا، باتخاذ الخليلة بدل الحليلة المشروعة، ويحمي المجتمع من الفساد بضمه أفرادا غير شرعيين ولما شرع الله تعالى التعدد جعل أساسه العدل؛ إذ به تقام الحياة الزوجية، وتحفظ حقوق كل من الزوج والزوجة الأولى، والزوجة الثانية، إلا أن الشرط نفسه تكرر؛ إن كان الخوف من عدم العدل في النكاح بأكثر من واحدة، إلى الواحدة لأنها أقرب للعدل، وإلا فملك اليمين فقال تعالى: { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا } ذلك. . البعد عن نكاح اليتيمات إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى، ونكاح غيرهن من النساء- مثنى وثلاث ورباع- ونكاح الواحدة فقط- {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} أي ذلك أقرب ألا تظلموا وألا تجوروا فالخوف من عدم العدل هو المعيار الذي يقيس عليه الرجل قدرته على التعدد، فإذا غلب على ظنه أن يعدد فالأمر مباح، وليس على سبيل الوجوب، وإن تيقن عدم العدل، أو غلب على ظنه ذلك ، أغلق باب التعدد؛ لأنه لم يتوفر العدل الذي لأجله شُرِّع.
الحكمة من إباحة التعدد :
- 1- التعدد سبب لتكثير الأمة ، ومعلوم أنه لا تحصل الكثرة إلا بالزواج وما يحصل من كثرة النسل من جراء تعدد الزوجات أكثر مما يحصل بزوجة واحدة ومعلوم لدى العقلاء أن زيادة عدد السكان سبب في تقوية الأمة ، وزيادة الأيدي العاملة فيها مما يسبب ارتفاع الاقتصاد – لو أحسن القادة تدبير أمور الدولة والانتفاع من مواردها كما ينبغي – ودع عنك أقاويل الذين يزعمون أن تكثير البشرية خطر على موارد الأرض وأنها لا تكفيهم فإن الله الحكيم الذي شرع التعدد قد تكفّل برزق العباد وجعل في الأرض ما يغنيهم وزيادة وما يحصل من النقص فهو من ظلم الإدارات والحكومات والأفراد وسوء التدبير ، وانظر إلى الصين مثلاً أكبر دولة في العالم من حيث تعداد السكان ، وتعتبر من أقوى دول العالم بل ويُحسب لها ألف حساب ، كما أنها من الدول الصناعية الكبرى . فمن ذا الذي يفكر بغزو الصين ويجرؤ على ذلك يا ترى ؟ ولماذا ؟
- 2- تبين من خلال الإحصائيات أن عدد النساء أكثر من الرجال ، فلو أن كل رجل تزوج امرأةً واحدة فهذا يعني أن من النساء من ستبقى بلا زوج ، مما يعود بالضرر عليها وعلى المجتمع أما الضرر الذي سيلحقها فهو أنها لن تجد لها زوجاً يقوم على مصالحها ، ويوفر لها المسكن والمعاش ، ويحصنها من الشهوات المحرمة ، وترزق منه بأولاد تقرُّ بهم عينها ، مما قد يؤدي بها إلى الانحراف والضياع إلا من رحم ربك .وأما الضرر العائد على المجتمع فمعلوم أن هذه المرأة التي ستجلس بلا زوج ، قد تنحرف عن الجادة وتسلك طرق الغواية والرذيلة … – نسأل الله السلامة – مما يؤدي إلى انتشار الفاحشة فتظهر الأمراض الفتاكة من الإيدز وغيره من الأمراض المستعصية المعدية التي لا يوجد لها علاج ، وتتفكك الأسر ، ويولد أولاد مجهولي الهوية ، لا يَعرفون من أبوهم فلا يجدون يداً حانية تعطف عليهم ، ولا عقلاً سديداً يُحسن تربيتهم ، فإذا خرجوا إلى الحياة وعرفوا حقيقتهم وأنهم أولاد زنا فينعكس ذلك على سلوكهم ، ويكونون عرضة للانحراف والضياع ، بل وسينقمون على مجتمعاتهم ، ومن يدري فربما يكونون معاول الهدم لبلادهم ، وقادة للعصابات المنحرفة ، كما هو الحال في كثير من دول العالم
- 3- الرجال عرضة للحوادث التي قد تودي بحياتهم ، لأنهم يعملون في المهن الشاقة ، وهم جنود المعارك ، فاحتمال الوفاة في صفوفهم أكثر منه في صفوف النساء ، وهذا من أسباب ارتفاع معدل العنوسة في صفوف النساء ، والحل الوحيد للقضاء على هذه المشكلة هو التعدد .
- 4- من الرجال من يكون قوي الشهوة ، ولا تكفيه امرأة واحدة ، ولو سُدَّ الباب عليه وقيل له لا يُسمح لك إلا بامرأة واحدة لوقع في المشقة الشديدة ، وربما صرف شهوته بطريقة محرمة أضف إلى ذلك أن المرأة تحيض كل شهر وإذا ولدت قعدت أربعين يوماً في دم النفاس فلا يستطيع الرجل جماع زوجته ، لأن الجماع في الحيض أو النفاس محرم ، وقد ثبت ضرره طبياً فأُبيح التعدد عند القدرة على العدل .
- 5- التعدد ليس في دين الإسلام فقط بل كان معروفاً عند الأمم السابقة ، وكان بعض الأنبياء متزوجاً بأكثر من امرأة ، فهذا نبي الله سليمان كان له تسعون امرأة ، وقد أسلم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم رجال بعضهم كان متزوجاً بثمان نساء ، وبعضهم بخمس فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بإبقاء أربع نساء وطلاق البقية .
- 6- قد تكون الزوجة عقيمة أو لا تفي بحاجة الزوج أو لا يمكن معاشرتها لمرضها ، والزوج يتطلع إلى الذرية وهو تطلع مشروع ، ويريد ممارسة الحياة الزوجية الجنسية وهو شيء مباح ، ولا سبيل إلا بالزواج بأخرى ، فمن العدل والإنصاف والخير للزوجة نفسها أن ترضى بالبقاء زوجة ، وأن يسمح للرجل بالزواج بأخرى
- 7- وقد تكون المرأة من أقارب الرجل ولا معيل لها ، وهي غير متزوجة ، أو أرملة مات زوجها ، ويرى هذا الرجل أن من أحسن الإحسان لها أن يضمها إلى بيته زوجة مع زوجته الأولى ، فيجمع لها بين الإعفاف والإنفاق عليها ، وهذا خير لها من تركها وحيدة ويكتفي بالإنفاق عليها .
- 8- هناك مصالح مشروعة تدعو إلى الأخذ بالتعدد : كالحاجة إلى توثيق روابط بين عائلتين ، أو توثيق الروابط بين رئيس وبعض أفراد رعيته أو جماعته ، ويرى أن مما يحقق هذا الغرض هو المصاهرة – أي الزواج – وإن ترتب عليه تعدد الزوجات .
*اعتراض :قد يعترض البعض ويقول : إن في تعدد الزوجات وجود الضرائر في البيت الواحد ، وما ينشأ عن ذلك من منافسات وعداوات بين الضرائر تنعكس على من في البيت من زوج وأولاد وغيرهم ، و هذا ضرر ، والضرر يزال ، ولا سبيل إلى منعه إلا بمنع تعدد الزوجات .دفع الاعتراض :والجواب : أن النزاع في العائلة قد يقع بوجود زوجة واحدة ، وقد لا يقع مع وجود أكثر من زوجة واحدة كما هو المشاهد ، وحتى لو سلمنا باحتمال النزاع والخصام على نحو أكثر مما قد يحصل مع الزوجة الواحدة فهذا النزاع حتى لو اعتبرناه ضرراً وشراً إلا أنه ضرر مغمور في خير كثير وليس في الحياة شر محض ولا خير محض ، والمطلوب دائماً تغليب ما كثر خيره وترجيحه على ما كثر شره ، وهذا القانون هو المأخوذ والملاحظ في إباحة تعدد الزوجات .ثم إن لكل زوجة الحق في مسكن شرعي مستقل ، ولا يجوز للزوج إجبار زوجاته على العيش في بيت واحد مشترك .*اعتراض آخر :إذا كنتم تبيحون التعدد للرجل ، فلماذا لا تبيحون التعدد للمرأة ، بمعنى أن المرأة لها الحق في أن تتزوج أكثر من رجل ؟
الجواب على هذا الاعتراض :المرأة لا يفيدها أن تُعطى حق تعدد الأزواج ، بل يحطّ من قدرها وكرامتها ، ويُضيع عليها نسب ولدها ؛ لأنها مستودع تكوين النسل ، وتكوينه لا يجوز أن يكون من مياه عدد من الرجال وإلا ضاع نسب الولد ، وضاعت مسؤولية تربيته ، وتفككت الأسرة ، وانحلت روابط الأبوة مع الأولاد ، وليس هذا بجائز في الإسلام ، كما أنه ليس في مصلحة المرأة ، ولا الولد ولا المجتمع “